عندما فقد النقد اللبناني مناعته وقدرته على إرساء ثبات واستقرار اقتصادي واجتماعي تمتّع به اللبنانيون لعقود ثلاثة خلت، لجأ مصرف لبنان مرغماً إلى ابتداع آلة ردع نقدية، من خارج الآلية المعتادة في مثل هذه الحالات، أي سوق البورصة الرسمية، فأنشأ منصة” صيرفة” في أيار 2021 بسعر 12 ألف ليرة للدولار الواحد، كسلاح جانبي يساعده “قدر الإمكانات” على التدخل في السوق لتحصين خطوط الدفاع عن الليرة.
تولت “صيرفة” مهمتين، واحدة لا تزال فعاليتها جيدة نسبيا، تساعد في دعم صمود موظفي القطاع العام والعسكريين والمتقاعدين، وعديدهم يتخطى الـ 400 ألف مستفيد، تلقّوا دعماً غير مباشر لرواتبهم عند استيفائها من مصارفهم على “دولار صيرفة”، الذي راوح فارق تسعيره أحيانا ما بين 20 إلى 30% من سعر دولار السوق. لكن مسار الإنحدار الدراماتيكي لليرة أمام الدولار، أجبر مصرف لبنان على محاولة استيعاب التفلت في السوق الموازية، من خلال رفع سعر “صيرفة” مرات عدة، (بدأ 12 ألف ليرة، ووصل الى ثمانين ألفا حاليا) لتفادي الخسائر أكثر في احتياطاته، وللتقليل من طباعة مزيد من الليرات. لكن هذا التنامي في سعر منصة “صيرفة”، قلّص قيمة مردود “دولاراتها” على رواتب الموظفين والمتقاعدين، بما يهدد بأزمة إجتماعية خطيرة لدى هذه الشريحة من ذوي الدخل المحدود.
ففي عملية حسابية بسيطة، نجد أن عدد موظفي القطاع العام والمتعاقدين والعسكريين العاملين بالخدمة والمتقاعدين يبلغ نحو 400 ألف مستفيد، برواتب إجمالية تقدّر بـ 4 آلاف مليار ليرة شهريا، قبضها هؤلاء الشهر الماضي على “دولار صيرفة” بسعر 45.5 ألف ليرة تقريبا، اي ما كان مجموعه نحو 90 مليون دولار “كاش”، وبما يعادل 200 دولار تقريبا لكل راتب. أما إذا احتسبنا مجموع الرواتب عينها حاليا، على سعر “صيرفة” المعتمد أخيرا، أي 80 ألف ليرة، ينخفض مجموع قيمة الرواتب من 90 إلى نحو 50 مليون دولار، وتتدنى قيمة الرواتب من نحو 200 دولار، إلى نحو 110 دولارات للراتب تقريبا، لنخلص إلى استنتاج مقلق يفيد بأن الموظفين والمتقاعدين سيخسرون ما يقارب الـ 40% من رواتبهم، في وقت تستفحل الأزمة و”تتدولر” جميع الأسعار والخدمات.
مصادر متابعة أكدت أن لا قرار نهائيا حتى الآن باعتماد سعر “صيرفة” الجديد لرواتب القطاع العام، مع الاخذ في الاعتبار أن لا حل جذريا لأزمة تآكل الرواتب قبل تفعيل الحل الشامل للنهوض الاقتصادي. لكن مرحليا يمكن السعي لتثبيت سعر “صيرفة” وسطي يقارب الـ 60 ألف ليرة لرواتب القطاع العام والمتقاعدين. وإذ أكدت أن الحل يكمن في زيادة رواتب القطاع العام، أوضحت أن أي تعديل أو زيادة على رواتب القطاع العام ممكنة بعدما عمدت الدولة الى زيادة ايراداتها من خلال اعتماد سعر الـ 45 ألف ليرة للدولار الجمركي، وضرائب أخرى مفيدة، علما أن مثل هذا القرار (اي زيادة الرواتب) يمكن أن ينعكس سلبا على الكتلة النقدية والتضخم، وحتمية اللجوء الى طبع مزيد من الليرات.
المهمة الثانية لـ”صيرفة”، كانت امتصاص السيولة من السوق، وتقليص كرة ثلج التضخم قدر الإمكان، وكذلك وقف الهدر المتمادي عبر سياسة الدعم المشؤوم، والبدء بتسعير المحروقات وبعض المواد الاستهلاكية على سعر منصة “صيرفة”، ومن ثم إعتمادها لتسعير العديد من فواتير الهاتف والانترنت وبعض الأدوية ورواتب القطاع الخاص، وأخيرا الكهرباء.
في المهمة الأولى نجحت منصة “صيرفة” في تهدئة جنون الدولار نسبيا، ولكن في الثانية، فشلت في ضبط الأسواق والأسعار والخدمات، ليس لقصور في إمكاناتها وديناميكية حركتها في السوق، بل لنقص فادح في ضمير المسؤولين والتجار والمهربين، ورعاتهم السياسيين والحزبيين، والفلتان الحدودي والأخلاقي الذي استغل المنصة لجني الأرباح وتكديس المنافع.
رواتب القطاع العام على أي سعر؟
في 10 أيار 2021 أصدر مصرف لبنان التعميم 157 الذي أنشأ بموجبه منصة “صيرفة” تحت عنوان “إجراءات استثنائية حول العمليات على العملات الأجنبية”، وبعد خضوع مندوبين من المصارف والصرافين لدورة تدريبية، أجراها المصرف المركزي حول تقنيات المنصة وآلية عملها، بدأ العمل عمليا بالمنصة في 18 منه. اليوم وبعد نحو عامين على اطلاقها هل من ضرورة لبقائها؟
مدير منصة “صيرفة” عباس عواضة أكد أهمية وجود “صيرفة” في ظل الاوضاع المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد. وقال لـ”النهار”: “لولا صيرفة لكان اللبنانيون عانوا الامرّين، فهي التي تضخ الدولار وتحرك الاسواق، خصوصا ما يتعلق بالسلة الاستهلاكية وموظفي القطاع العام”. وألقى عواضة باللوم على المصارف “التي تنفّذ اضرابا، وإلا لكان مصرف لبنان زوّدها بالدولارات”. وفيما أُشيع أن “الكوتا” بالدولار التي كان يمنحها مصرف لبنان للبنوك تقلصت كثيرا، قال عواضة: “بما أن الاضراب لا يزال قائما فإن المصرف المركزي توقف عن الدفع للمصارف، باستثناء ما يتعلق برواتب القطاع العام التي ستُدفع كاملة”. وأكد ان مصرف لبنان “لم يتوانَ يوما عن تزويد المصارف بما تطلبه من دولارات عبر صيرفة لعملائها من شركات وافراد، وتاليا عندما تفكّ المصارف اضرابها سيتم تزويدها بالدولارات بشكل عادي”.
أما بالنسبة الى عمليات الإيداع التي حصلت استنادا الى قرار مصرف لبنان الذي سمح للمواطنين بالافادة من سقف 100 مليون ليرة شهريا، أكد عواضة أن “المركزي” يدفع للمصارف على اساس الطلبات التي تستوفي الشروط التي يدرسها بتأنٍ، حتى لا تُسجل اي عمليات تلاعب، علما أنه لا تزال نسبة قليلة من عمليات الـ 100 مليون ليرة لم تتسلمها المصارف بعد، وستحصل عليها تلقائيا خلال اسبوع على الاكثر من تاريخ اعادة فتح ابوابها”.
في ما خصّ رواتب القطاع العام وعلى أي سعر “صيرفة” ستُدفع، كشف عواضة أن سعر الـ 45.50 ألف ليرة كان لرواتب شهر شباط، أما الرواتب لشهر آذار فإنها ستكون على سعر “صيرفة” الجديد الذي يحدده مصرف لبنان والذي كان أخيرا بمعدل 80200 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وهذا الامر برأي عواضة “لا يشكل خسارة للموظفين على اعتبار أن الدولار يرتفع في السوق الموازية”.
المصدر : النهار