الإثنين, أبريل 29, 2024
الرئيسيةأخبار محلية“رايحين على جهنم”.. اليكم يوميات مواطن لبناني

“رايحين على جهنم”.. اليكم يوميات مواطن لبناني

- Advertisement -

يستيقظ إلياس في الخامسة والنصف فجراً، كي يتوجه إلى عمله. إلياس رجل أربعيني، يدير مصنع العائلة الكائن في المنطقة الصناعية في الدكوانة، في ضاحية بيروت الشمالية. ما إن يفتح عينيه في الصباح الباكر، حتى يبدأ المسلسل الجهنمي الذي يعيشه في واقعه اليومي، وكأنه قد كُتب عليه أن يكون، دون علمه أو رضاه، بطلاً من أبطال “الكوميديا الإلهية” للكاتب الفلورنسي الشهير دانتي أليغياري.

- Advertisement -

لإلياس قائمته التراتبية التي أعدها في المحتكرين، وغيرهم من التجار ومقدمي الخدمات الذين يستفيدون من شح المواد الاستهلاكية والغياب شبه التام للخدمات المعيشية الأساسية التي على الدولة أن تقدمها، كي يحققوا أرباحاً طائلة على ظهر الناس وأوجاعهم:

- Advertisement -

1ـ الصرافون.
2ـ أصحاب محطات الوقود.
3ـ أصحاب موتورات اشتراك الكهرباء.
يبدأ إلياس بمواجهة قدره اليومي بحسب الترتيب الذي أعده. أولاً، تأمين الدولارات، بشق النفس وبأسعار صرف تتغير -بسبب أو بدون سبب- بين ساعة وأخرى، لكي يستطيع استيراد المواد الأولية التي يستعملها في صناعته التحويلية، والتي بدونها لا مصنع يعمل ولا عمّال يعملون.

ثانياً، تأمين المازوت لمحركات مصنعه وماكيناته، ناهيك عن البنزين لسيارته وسيارة زوجته.

ثالثاً، تأمين المال لتسديد الفواتير لأصحاب موتورات اشتراك الكهرباء بأسعار باهظة وصلت، بسبب انقطاع كهرباء الدولة شبه التام وشح مادة المازوت التي تعمل عليها موتورات الاشتراك في الأسواق، إلى أكثر من 500 ألف ليرة لبنانية لكل خمسة أمبيرات بالشهر، في حين أنّ الحد الأدنى للأجور ما زال 750 ألف ليرة لبنانية.

أما تالة، فتتحايل على أولادها أثناء إعدادها للفطار (الترويقة)، محاولة إقناعهم ببعض الأصناف الجديدة قليلة الجودة، التي اضطرت إلى أن تشتريها كبديل عن المأكولات أو الحلويات التي كان الأولاد قد اعتادوا عليها، ولكنها أصبحت منذ أكثر من سنة إما مفقودة في السوق، أو بأسعار خيالية. وقبل أن تخرج إلى عملها في الجامعة ومشاغلها في جهنّم لبنان، تلقي تالة نظرة سريعة على أوراق أطروحتها التي تنتظر منذ فترة طويلة على طاولة غرفة السفرة، بجانب أبحاثها في علوم الاقتصاد التي بدأت تتلوّن بالأصفر، ثم تشيح بنظرها عنها، وكأنها تقول لنفسها: لا وقت لديّ الآن لتحقيق حلمي، لا وقت، عليّ أن أواجه مصاعب الاقتصاد في واقعي اليومي، وليس في دفاتر أبحاثي.

عندما تتصل بجاد، وهو محامٍ بيروتي، للاطمئنان عليه، تجده في طابور من طوابير إحدى صيدليات لبنان على امتداد الـ10452 كلم. شو بأي منطقة اليوم؟ جونية أو جبيل أو صيدا؟ فيرد عليك بروح دعابته المعهود: “واللّه يا خيي اليوم تشكيلة: الصيدلية بجبيل، البنزين من البترون، الخبز من الدورة، وإذا تبقّى لدي القليل من الوقت والمال، فاللَّحمة من الأشرفية!” أما مكتبه، فقد أقفله عملياً لضيق الوقت، وتفرغ لتأمين أبسط الحاجيات اليومية لعائلته.

الأشرفية، حيث يعمل جرجس كصيدلاني، بعد أن عاد إليها من فرنسا التي نال من أهم جامعاتها دكتوراه في اختصاصه، قبيل الكارثة الاقتصادية التي حلت بلبنان، يقول إنه لم يتسلم أي دواء من أي شركة استيراد أدوية منذ أكثر من عشرة أيام، وإنه لم يعد يعلم ماذا يقول لزبائنه، وكيف يهدّئ من روعهم.

أما زميله في المهنة، محمّد، وهو من الجنوب، فقد تحوّل إلى ابن بطوطة لبنان وسائر المشرق، تلتقيه هنا في باريس لمدة عشر دقائق سريعة خلال زيارته الخاطفة للعاصمة الفرنسية، دقائق كافية فقط لإعطائه بعض الأدوية ليسلمها للأهل في لبنان (بسبب انقطاعها وعدم توفرها هناك)، تلتقيه وقد أنهكته المشاغل والهموم، وذلك قبل أن ينصرف لمواعيده المتراكمة في النهار بحثاً عن فرصة عمل له في الخارج، وقبل أن يكمل جولته في باقي المدن الأوروبية متحيزاً أي وسيلة لإخراج عائلته وأولاده من جحيم لبنان. وهو تماماً كوسيم، الذي يراسلك من لبنان، وهو يبحث يومياً عن أي طريقة للخروج من جحيمه.

“الحمد للّه، خلينا ساكتين”، لازمة يرددها، بكثير من الاشمئزاز والقرف من الوضع العام، زاهر ورامي ونايف، كلما سألتهم عن أحوالهم وأحوال عائلاتهم، على مجموعة الواتساب التي تجمع بعض الأصدقاء اللبنانيين عبر البحار. هم موظفون برتبة عالية في مصارف أو شركات في لبنان، هم “بوز المدفع” كما يقول اللبنانيون الذين عليهم مواجهة الزبائن الغاضبين، عن حق، بسبب تدابير المصارف التعسفية وحجز أموال المودعين، أي بسبب تلك التدابير التي ليس لموظفي المصارف في أمرها ناقة ولا جمل.

أما زميلهم في المهنة، جان بول، فهو اختصاصي فواتير، تراه يرسل لك صور فواتير مشترياته من الحاجيات اليومية كلما خرج للتبضّع، وعليها أسعار خيالية تتبدل صعوداً بين ليلة وضحاها، بالإضافة إلى صور أسعار مما تبقى من البضائع على رفوف السوبر ماركت، مذيلاً صوره بعبارة بلغة فرنسية ممتازة، مفادها: “شو بدّك تجي تعمل بلبنان؟!”.

أما المغتربون -لا سيما المغتربات- الذين يزورون لبنان خلال فصل الصيف، فيجمعون على نصيحتك بشكل قاطع بعدم زيارة الوطن قريباً. تتوالى رانية ونادية، ثمّ تالة، وهنّ أمهات عاملات يعشن مع أزواجهن وأولادهنّ في دول الخليج العربي، على كتابة تعليقات مؤثرة جداً تحت منشور أو منشورين فيسبوكيين كتبتهما عن شوقك لبيروت، وهنّ يصفن في تعليقاتهنّ كيف زرن بيروت مؤخراً، “فأوجعهنّ قلبهنّ على بيروت وأهل بيروت، وكيف أنّ بيروت حزينة ومنظرها يؤلم من كثرة حزنها، وأنّ وجوه أهلها أصبحت كالحة دون ملامح، مليئة بالهموم والقرف والعتب الذي ما عادوا يعرفون ضد من يوجهونه بسبب الذل اليومي الذي يعيشونه”، ثم تختم تالة حديثها قائلة كلاماً يعتصر له قلبك عبر المسافات، إنّه “حتى مآذن المساجد في بيروت لم يعد صوتها يرتفع، وإنّه حتى دموع الناس محبوسة في عيونها من كثرة الوجع”.

أما أمّونة، وهي مديرة مكتب أحد كبار الأطباء في العاصمة، وتسكن على مشارف ضاحية بيروت الجنوبية، فتحدثك عن الأحوال المادية المزرية للمرضى، وعن هجرة الأطباء من لبنان، وانهيار قطاع الاستشفاء، وخلو المستشفيات من خيرة موظفيها، وذلك قبل توجهها إلى اعتصام للمطالبة بالعدالة لضحايا انفجار مرفأ بيروت.

أما عمر، وهو من أصالة الشوف التي ينتمي إليها، فتلتقيه هنا في باريس وهو في طريقه من جنوب شرق آسيا حيث يقيم ويعمل في مجال الأسواق المالية، متوجهاً إلى لبنان، فلا يهدأ موبايله من تلقي الاتصالات التي تتمحور كلها حول المساعدات المالية والعينية التي يجمعها على مدار السنة من جميع أنحاء العالم كي يرسلها، مع شركاء آخرين، إلى لبنان، وأنتما تجلسان حول طاولة مقهى باريسي، ولبنان دائما ثالثكما.

ثم تلتقي بفوزي، وهو مهندس معماري، منذ بداية الأزمة وهو يجول من مدينة إلى أخرى على ساحل المتوسط، محاولا إيجاد زبائن لمشاريعه العمرانية، في سبيل تأمين قوته وقوت عائلته، فيقول لك وأنتما تجلسان على مقعد خشبي عام في إحدى ساحات باريس، وقد فرغت يده اليمنى هذه المرة من سيجاره الكوبي المعهود، وهو يشد على أصابعه من كثرة القلق والتعصيب: “اللبناني بيعمّر، إذا ليس بلده، في بلاد الغير، نحنا شغلتنا العمران، أبّاً عن جد، ما منعرف إلا نعمّر، وما خلق إلي بدّو يمنعنا إنو نعمّر”.

فيدبّ فيك بعض من الأمل من جديد. وتتذكر كل شريط أحاديثك منذ بداية الانهيار مع كل هؤلاء المكافحين والمكافحات، وجلهم من الطبقة الوسطى أو مما تبقى منها.

“رايحين على جهنّم”، هذا ما كان بشّرنا به رئيس الجمهورية ميشال عون في 22 سبتمبر/أيلول 2020، وهذا ما وصلنا إليه، وما نعيشه يومياً.

جهنّم.. جهنّم الحمراء، بأبشع تجلياتها وصورها الأكثر مرارة. واللبناني ما زال يكافح ويكافح ويكافح، ويهرب من انفجار إلى انفجار آخر، ومن حريق إلى نيران أخرى، في حين يتسلى أركان الطبقة السياسية بتفاهاتهم المعهودة، وبترف التعطيل المستمر، غير آبهين لا بإلياس، ولا بمحمّد، ولا بالتالَتَين، ولا بغيرهم الكثير الكثير من اللبنانيين واللبنانيات، من الطبقة الوسطى وغيرها، الذين يجالدون يومياً في خضم أتون جهنم التي وعدوهم بها، وأوصلوهم إليها.

فإلى متى كل هذا الجنون؟

– Advertisement –



– Advertisement –


قد يهمك أيضاً

– Advertisement –

مقالات ذات صلة

اضغط على الصورة لتحميل تطبيقنا للأخبار والوظائف على مدار الساعة 24/24

spot_img

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

انضم الى قناتنا على الواتساب للأخبار والوظائف على مدار الساعة 24/24

spot_img

انضم الآن الى قناتنا على التلغرام للوظائف

spot_img

انضم الى مجموعتنا على الفيس بوك

spot_img

أحدث المقالات

Translate »