كيف نخرج من أزمة الدولار؟

الإنتظام المالي لأي دولة هو عنصر جوهري في الإدارة المالية للدولة حيث تُعتبر الإستراتيجيات المالية – الإقتصادية الموضوعة في الموازنات الحكومية من أهمّ العناصر التي يتمّ على أساسها قياس فعّالية الموازنات. وإذا كان عجز الموازنة هو عامل مُهمّ في تقييم الأداء المالي للحكومات، إلا أنه ليس المقياس الوحيد للإنتظام المالي بحكم أن هذا الأخير يتأثر بأعباء الديون الموروثة في الأعوام الماضية مما ينعكس حكمًا في خدمة الدين العام كما بالدورة الإقتصادية. وهو ما يُمكن ملاحظته من خلال تسجيل عجز في الموازنة بمعزلٍ عن الخيارات الهيكلية للحكومة في الموازنة العامة – عنيت بذلك مستوى الضرائب ومستوى الإنفاق.

دراسة الإنضباط المالي للدولة تمرّ إلزاميًا عبر القيود المفروضة على ميزانية الدولة لناحية أن تمويل الإنفاق يمرّ من خلال الضرائب أو إصدار سندات الخزينة وذلك عملًا بالمعادلة التالية: إصدارات سندات خزينة جديدة (أي زيادة في الدين العام) + الإيرادات الضريبية = خدمة الدين العام + الإنفاق العام. وبالتالي فإن نسبة الدين العام تزيد لسبب من إثنين: (1)تسجيل عجز أوّلي أو (2) زيادة الفجوة بين سعر الفائدة الحقيقي ومعدل النمو. هذا الأمر يعني أن هناك ضرورة أن يكون هناك فائض في الميزان الأوّلي يفوق خدمة الدين العام بهدف تحقيق الإنتظام المالي تحت طائلة الإفلاس (وهذا ما وصل إليه لبنان!)

الإنتظام المالي هو ضرورة في المالية العامة لأنه يؤدّي إلى توازن في الحسابات العامة وفي ميزان المدفوعات، ويزيد الثقة بالإقتصاد ويُحفّز الإستثمارات الخارجية وإستطرادًا يدعم العملة الوطنية.

الدولة اللبنانية التي اختارت التعثّر الطوعي دون رؤيا مستقبلية ومن دون التحدث إلى الدائنين للخروج بحل يرضي الأطراف كافة شكل خطوة متهورة خاطئة عزلت لبنان مالياً بحيث أصبحت الأوضاع العامة في مرحلة لم تعد فيها الإجراءات الجزئية مُمكنة أو ذات فعّالية. عمليًا، كان من المُمكن القيام (قبل التعثّر) بعدة إجراءات كانت لتسمح بإستعادة الإنتظام المالي (مثلًا: التقشف المالي، رفع الرسوم الجمركية، رفع الضرائب، تحسين الجباية…)، إلا أن هذه الأمور لم تعد كافية اليوم وهناك ضرورة قصوى للقيام بعمليات إصلاحية كبيرة على عدّة مستويات.

وفي ما يلي بعض النماذج من الإصلاحات والإجراءات الواجب القيام بها وذلك بمعزل عن نتائج المفاوضات مع صندوق الدولي بحكم أنه هذه الإصلاحات والإجراءات أمست ضرورة للخروج من الأزمة.

المُشكلة الرئيسية الحالية هي في مالية الدولة اللبنانية التي ترزح تحت دين عام 97 مليار دولار أميركي على سعر صرف 1500 ليرة لبنانية منها 50 مليار دولار أميركي بالدولار. التعثّر الذي قامت به الدولة في أذار 2020، عزل لبنان عن النظام المالي والمصرفي العالمي وأصبح من شبه المُستحيل للبنان اللجوء إلى الأسواق المالية العالمية (أو حتى المحلّية) لتمويل حاجاته المالية خصوصًا بالعملة الصعبة. وبالتالي هناك ضرورة قصوى لبدء المفاوضات مع المُقرضين لمعرفة مصير هذا الدين العام الذي تعمدت السلطة الحالية إلى مزجه بمشاكل القطاع المصرفي عبر الحديث عن فجوة مالية في القطاع المصرفي (بغضّ النظر عن صحّة هذا الأمر أو عدم صحته). هناك دين على الدولة اللبنانية منه 11.8 مليار دولار أميركي ديون خارجية والباقي داخلي، وبالتالي نرى أن السلوك الرسمي يتّجه إلى إعتبار أن هذا الدين هو داخلي ويجب على القطاع المصرفي تحمّله بالإضافة إلى المودعين الذين إستفادوا من فوائد مُرتفعة (بحسب تصاريح بعض المسؤولين). هذا الأمر إن تم إذعاناً، أي فرض من قبل الطرف المدين دون قبول الدائن، فسيؤدّي حتماً إلى فقدان الدولة اللبنانية أي قدرة مُستقبلية على الإقتراض سواء داخليًا أو من خلال الأسواق العالمية وبالتالي هناك ضرورة لإظهار بعض الجدّية في تعاطي الدولة مع هذا الدين وتحمّل مسؤولياتها خصوصًا أن هذا الإنفاق تمّ عبر الموازنات – أي السياسات الحكومية المُتعاقبة.

المعروف اقتصادياً أن دين اليوم هو ضرائب الغد، وبالتالي إعتراف الدولة بديونها يعني أن المواطنين هم من سيدفعون هذا الدين من خلال الضرائب وهو أمر يُشكّل حقيقة عملية. إلا أن فرض ضرائب على المواطنين من خلال القوانين الحالية ودون تقديمات مجدية هو أمرٌ غير عادل! وبالتالي يتوجّب على الحكومة التي أعطاها الدستور والأعراف الدولية شرعية لهذه الأداة – أي الضرائب – أن تقوم بفرضها بشكلٍ عادل وهو ما يعني تعديلا في قانون الضريبية وذلك إما من خلال جعلها ضريبة تصاعدية مع التشدّد في الجباية والتحقق من سدّ كل الثغرات التي قد يستفيد منها بعض الميسورين النافذين، وأما من خلال توسيع القاعدة الضريبية وذلك بفتح المجال لدخول استثمارات جديدة وبضرائب منخفضة لمدة زمنية محددة لا يمكن اللعب بها لكسب ثقة المستثمرين.

ومن الإصلاحات الجوهرية التي يجب أن تطال المالية العامة، النظر في شق الإنفاق غير المثمر أو غير المبرر خصوصًا أن الوقت مُناسب لمعالجته من خلال الشراكة بين القطاع العام والخاص لنقل العديد من موظفي الدولة إلى القطاع الخاص (من دون المسّ بلقمة عيشهم) وإقفال العديد من المؤسسات غير المُجدية ومكننة معاملات الدولة بالكامل.

على الصعيد الإقتصادي، المُشكلة الرئيسية هي بالحجم الذي أصبحت الدولة تُشكله في الإقتصاد! على هذا الصعيد، من أهم شروط صندوق النقد الدولي إنسحاب الدولة بالكامل من المجال الإقتصادي وهو ما يعني تخليها عن الكهرباء والإتصالات والمرافق العامة. وقد أظهرت التجارب فشل القطاع العام في إدارة هذه المؤسسات وهو ما يفرض الشراكة مع القطاع الخاص من دون التخلّي عن ملكية هذه المرافق.

وعلى الصعيد الإقتصادي أيضاً، هناك حاجة جوهرية لإعادة النمو الإقتصادي إلى مستويات يكون فيها الفائض الأوّلي كافٍيا لتغطية خدمة الدين العام وهذا شرط أساسي لصندوق النقد. أضف إلى ذلك إلزامية إعادة هيكلة الناتج المحلّي الإجمالي لحلّ أزمة الإستيراد خصوصًا أننا نستورد 85% مما نستهلك. وبالتالي فإن تشجيع الصناعات المحلية (غذائية، تحويلية…) هو ممرّ إلزامي يُمكن أن يحصل من خلال تخصيص البلديات لنسبة من أراضيها لإنشاء مدن صناعية تسمح بتلبية الطلب المحلّي بنسبة لا تقلّ عن 70%! كذلك الأمر بالنسبة للزراعة حيث من الضروري إستعادة الأملاك النهرية المُقدرة بأكثر من 25 مليون متر مربع وذلك بهدف استغلالها بنحو زرعها بالقمح والذرة وغيرها من المنتوجات الزراعية التي يستوردها لبنان.

هذه المشاريع الإقتصادية تحتاج إلى إستثمارات وهو ما يتطلّب من الحكومة إعتماد إجراءات مالية – قانونية – قضائية – إدارية لجذب هذه الإستثمارات التي تعتمد بشكل أساسي على الثقة بالنظام اللبناني. بمعنى أخر، يجب تفعيل إستقلالية القضاء – الحامي الأول للإقتصاد – وتسهيل المعاملات الإدارية ومكافحة الفساد وإقرار تحفيزات ضريبية وتحديث القوانين المُتعلّقة ببيئة الأعمال.

أيضًا من الإصلاحات المطلوبة، تعديل السياسة النقدية من خلال التخلّي عن تثبيت سعر الصرف لصالح تعويم مُوجّه أقلّه في العامين القادمين لضمان الثبات الإجتماعي الذي يعتمد بشكل أساسي على الثبات النقدي. هذا الأمر نابع من إستحالة تثبيت سعر الصرف بعد إستنزاف الإحتياط ولكونه أيضًا هو من المطالب الأساسية لصندوق النقد الدولي الذي يُطالب بتحرير سعر الفائدة (لآجال أكثر من سنتين) وإستطرادًا سعر صرف الليرة.

وبما أن الأزمة الحالية رفعت الفقر في لبنان إلى مستويات مُرعبة، فيبقى من الإجراءات الضرورية خلق شبكة آمان إجتماعي عبر وجود قوي للدولة في رقابة اللعبة الإقتصادية ومحاربة الاحتكار والتهريب والمضاربة. على هذا الصعيد، يُعتبر توقيع إتفاقات مع البنك الدولي بالتوازي مع عمليات إصلاحية، الممرّ الضروري نظرًا إلى الديناميكية الخطرة للفقر والتي تُنذر بتجويع الشعب.

المرحلة المُقبلة لا تبشر بالخير خصوصًا مع تصريح حاكم الإحتياطي الفديرالي الأميركي الذي وعد برفع الفائدة في الولايات المُتحدة الأميركية وهو أمر مُتوقّع في شهر أذار المُقبل خصوصًا أن التضخّم وصل إلى مستويات تاريخية في الولايات المُتحدة الأميركية مع 7% (أعلى مستوى منذ 40 عامًا!). هذا الإجراء سيكون له تداعيات عالمية خصوصًا على الدول الناشئة التي ستشهد هروبًا لرؤوس الأموال منها إلى الولايات المُتحدة الأميركية، وسيكون له تداعيات أيضاً على الليرة اللبنانية التي ستشهد ضغوطات كبيرة مع إعتماد الإقتصاد اللبناني على الإستيراد (أي الدولار) وهو ما يعني أن هناك إلزامية للتسريع في عملية الإصلاحات لأن الوقت ينفد وقد نصل إلى نقطة اللاعودة مع إعلان لبنان دولة فاشلة الذي يُمكن ترجمته بعدم قدرة لبنان على الإستدانة أو تلقي المساعدات المالية من الدول الأخرى.

المصدر: الديار

Ads Here


عن Mohamad Jamous

شاهد أيضاً

أسعار المحروقات في لبنان، سعر البنزين اليوم في لبنان، سعر الديزل اليوم في لبنان، سعر الغاز اليوم في لبنان، سعر النفط في لبنان، أسعار الوقود في لبنان، التحديث اليومي لأسعار المحروقات في لبنان، سعر الوقود في لبنان اليوم، سعر البنزين في السوق السوداء في لبنان، سعر المحروقات في لبنان لحظة بلحظة، سعر لتر البنزين في لبنان، سعر لتر الديزل في لبنان، توقعات أسعار الوقود في لبنان، تحليل أسعار المحروقات في لبنان، سعر الغاز المسال في لبنان، سعر الكيروسين في لبنان، استقرار أسعار المحروقات في لبنان، أثر ارتفاع أسعار المحروقات في لبنان، تقلبات أسعار المحروقات في لبنان، أسعار الوقود في محطات البنزين في لبنان، أسعار المحروقات في السوق اللبنانية، شراء الوقود في لبنان، تأثير أسعار الوقود على الحياة اليومية في لبنان، أخبار أسعار المحروقات في لبنان، أسعار الوقود في السوق اللبنانية اليوم، fuel prices in Lebanon، gasoline price today in Lebanon، diesel price today in Lebanon، gas price today in Lebanon، oil price in Lebanon، fuel cost in Lebanon، daily fuel price update in Lebanon، Lebanon fuel prices today، gasoline price in black market Lebanon، real-time fuel prices in Lebanon، price of gasoline per liter in Lebanon، price of diesel per liter in Lebanon، fuel price forecasts in Lebanon، fuel price analysis in Lebanon، LPG price in Lebanon، kerosene price in Lebanon، fuel price stability in Lebanon، impact of rising fuel prices in Lebanon، fuel price fluctuations in Lebanon، fuel prices at gas stations in Lebanon، fuel prices in the Lebanese market، buying fuel in Lebanon، impact of fuel prices on daily life in Lebanon، fuel price news in Lebanon، Lebanon fuel market prices today،أسعار المحروقات اليوم في لبنان, Fuel prices in Lebanon, سعر البنزين في لبنان, Gasoline price in Lebanon, سعر المازوت في لبنان, Diesel price in Lebanon, جدول أسعار المحروقات في لبنان, Lebanon fuel price update, سعر الغاز في لبنان, Gas price today in Lebanon, محطات الوقود في لبنان, Gas stations in Lebanon, توقعات أسعار المحروقات في لبنان, Lebanon fuel crisis, تأثير سعر الدولار على المحروقات في لبنان, Impact of dollar on fuel prices in Lebanon, أزمة الوقود في لبنان, Lebanon energy crisis, كلفة النقل في لبنان بسبب ارتفاع المحروقات, Rising fuel costs in Lebanon, كيفية توفير الوقود في لبنان, Saving fuel in Lebanon, السوق السوداء للمحروقات في لبنان, Lebanon black market fuel, استيراد المحروقات في لبنان, Fuel import in Lebanon, دعم الحكومة لأسعار المحروقات في لبنان, Fuel subsidies in Lebanon, ارتفاع أسعار الطاقة في لبنان, Oil price Lebanon, تأثير أزمة الطاقة على الاقتصاد اللبناني, Impact of energy crisis on Lebanese economy, كيفية ترشيد استهلاك المحروقات في لبنان, How to save fuel in Lebanon, أسعار الطاقة الشمسية في لبنان, Solar energy prices in Lebanon, محطات تعبئة الغاز في لبنان, Gas filling stations in Lebanon, توزيع المحروقات في لبنان, Fuel distribution in Lebanon, مواعيد صدور جدول أسعار المحروقات في لبنان, Fuel price schedule release dates in Lebanon, تأثير أزمة المحروقات على النقل العام في لبنان, Impact of fuel crisis on public transport in Lebanon, أسعار الوقود في بيروت, Fuel prices in Beirut, أزمة الكهرباء في لبنان, Electricity crisis in Lebanon, تأثير ارتفاع أسعار المحروقات على حياة اللبنانيين, Impact of rising fuel prices on Lebanese citizens, شحن الوقود إلى لبنان, Fuel shipment to Lebanon, استهلاك البنزين في لبنان, Gasoline consumption in Lebanon, مصادر استيراد المحروقات في لبنان, Sources of fuel imports in Lebanon, تسعير المحروقات في لبنان, Fuel pricing in Lebanon, أسعار الوقود المدعوم في لبنان, Subsidized fuel prices in Lebanon, خطة الحكومة لدعم المحروقات في لبنان, Government plan for fuel subsidies in Lebanon, طوابير المحطات في لبنان, Gas station queues in Lebanon, نفاد الوقود في لبنان, Fuel shortages in Lebanon, الاعتماد على المولدات في لبنان بسبب نقص المحروقات, Dependence on generators in Lebanon due to fuel shortages

أسعار المحروقات اليوم ↑↓

أسعار المحروقات في لبنان اليوم أو اضغط هنا لرؤية التسعيرة المستجدة للمحروقات لحظة بلحظة Ads …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *